" الحقائق الكاذبه "
كتب :احمد البيلي **
"الحقائق الكاذبة true lies" مصطلح في المعجم الغربي يشير إلى حقائق غير مزيفة، ولكنها ليست كاملة، أي أن الحقيقة الكاذبة هي حقيقة جزئية، ومن ثم يمكن توظيفها لتوثيق أي أطروحة مهما كان زيفها، ولتبرير أي سلوك مهما كان ظالماً. ولعل أقرب شيء في تراثنا العربي لهذه العبارة عبارة "لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ" الجزئية، وكأن هذا هو الأمر الإلهي وليست العبارة الكاملة "لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى". وعادة ما أضرب المثال التالي على ظاهرة "الحقائق الكاذبة true lies"، إذ تذكر التواريخ الصهيونية أن تيتوس القائد الروماني جاء بجيشه وهزم اليهود وهدم الهيكل وشتتهم. ثم يأتي الصهاينة بإحصائية تقول إن عدد اليهود كان 3 أو 4 مليون في حوض البحر الأبيض المتوسط وبابل (بل وكان عددهم يصل حسب بعض التقديرات التخمينية إلى 7 مليون)، قبل هدم الهيكل، بينما كان عددهم في فلسطين بعد هدم الهيكل لا يتجاوز المليون، ثم أخذ في التناقص، أي أن القائد الروماني تيتوس هو المسئول عن شتات اليهود، وهو الذي أرغمهم على النزوح عن "وطنهم القومي". وإذا نظرنا إلى الإحصائيات التي أتى بها الصهاينة سنجد أنها حقيقية ولم يتم تزييفها، ولكنه تم ما هو أسوأ من ذلك، إذ تم نزعها من سياقها التاريخي وفرض معنى صهيوني عليها. فنحن إذا نظرنا إلى الإحصائيات الخاصة بأعداد اليهود قبل هدم الهيكل، سنجد أنه كان هناك مليون يهودي في فلسطين بينما كان هناك ما يقرب من ستة ملايين في حوض البحر الأبيض المتوسط وبابل، أي أن اليهود هاجروا من فلسطين لا لأن تيتوس فرض عليهم ذلك، وإنما بسبب مركب من الأسباب، أي أن الشتات (التهجير القسري) لم يكن شتاتاً، وإنما كان انتشاراً، لا يختلف عن انتشار الأقليات والجماعات الإثنية والدينية الأخرى لأسباب عديدة من أهمها البحث عن الرزق، ويبدو أن فلسطين عبر تاريخها كانت طاردة لسكانها، بسبب فقر مصادرها الطبيعية.
ومن الأمثلة الدرامية على الحقائق الكاذبة، ما يتعلق بمأساة عائلة تيودور هرتزل. فقد نشرت الصحف الإسرائيلية ووكالات الأنباء اليهودية مؤخرا أخبارا عن نقل رفات ستيفين تيودور نورمان، الحفيد الوحيد لتيودور هرتزل، إلى إسرائيل. وقد ورد الخبر دون ذكر الكثير من الحقائق، وذلك لتحويل نورمان إلى رمز صهيوني باعتباره يهودياً عائداً إلى أرض الميعاد والدولة اليهودية حتى بعد وفاته! ولكن المعروف أن يهودية هرتزل نفسه أمر مشكوك فيه، فحين حضر حاخام إصلاحي لعقد قرانه اكتشف أنه أمام شخص غير يهودي. ولم يختن هرتزل أولاده كما تتطلب الشريعة اليهودية، كما أنه لم يخفي قط احتقاره لكل من اليهود واليهودية. ولعل هذا انعكس على أفراد عائلته. فكبرى بناته بولين (1890 ـ 1930) كانت مختلة عقلياً وطُلِّقت من زوجها وأصبحت صائدة للرجال ومدمنة للمخدرات. أما أخوها هانز (1891ـ 1930) الذي لم يختن طيلة حياته، فقد أصيب بخلل نفسي واكتئاب شديد ثم تَحوَّل إلى المسيحية وانتحر يوم وفاة أخته. أما الابنة الصغرى، فقد ترددت على كثير من المصحات النفسية حتى ماتت عام 1936. وقد نشأ ابنها نورمان ـ وحفيد هرتزل الوحيد ـ في إنجلترا حيث غيَّر اسمه من نيومان (اسم ذو نكهة يهودية) إلى نورمان (اسم ذو نكهة أنجلو ساكسونية)، وكان يعمل ضابطاً في الجيش الإنجليزي . وبعد أن ترك الخدمة عُيِّن مستشاراً اقتصادياً للبعثة البريطانية في واشنطن حيث انتحر عام 1946 بإلقاء نفسه من على كوبري في النهر عقب علمه أن والديه قد لقيا حتفهما في معسكر "تيريسآينشتات Theresieinstadt" في تشيكوسلوفاكيا. وقد أثارت حالات الانتحار هذه حفيظة المؤسسة الحاخامية التي رفضت في البداية دفن أفراد عائلة هرتزل في القدس (لأن الشريعة اليهودية تُحرِّم الانتحار)، إلا أن الأمر تم تبريره بحجة أنهم كانوا يعانون من الأمراض النفسية مما يسقط عنهم المسئولية الأخلاقية.
التعليقات على الموضوع