" الانسان والتاريخ "

كتب : احمد البيلي **





رؤية الإنسان للتاريخ تعبر عن رؤيته للكون (وللإله والإنسان والطبيعة)، ولذا فدراسة رؤية التاريخ هى فى واقع الأمر دراسة لرؤى الكون (ومن ثم النماذج الإدراكية والتحليلية). وحتى نفهم رؤى التاريخ (والكون) سنطرح إشكالية تواجهها كل الديانات التوحيدية وهي: كيف يخاطب الخالق المخلوقات، فالخالق مطلق والمخلوقات نسبية، والإجابة على هذا السؤال تحدد الموقف من التاريخ؟ فكل عقيدة توحيدية تطرح نقطة تقاطع بين الخالق والمخلوق. في حالة الإسلام نقطة التقاطع هذه ليست الرسول عليه الصلاة والسلام ولا أي فرد وإنما القرآن، فالله سبحانه وتعالى أرسل القرآن هداية للعالمين، والرسول عليه الصلاة والسلام ليس تجسدا لله وإنما هو رسول وحسب، مجرد إنسان يحمل الرسالة. والقرآن هو  (اللوجوس)، أي الكلمة، وهى كلمة بالفعل، كلمة مكتوبة فى كتاب يمكن لأي إنسان أن يقرأه ويفهمه. وقد أشرت إلى أن الرسول مجرد إنسان (رغم أن هناك محاولات حلولية داخل الإسلام لتأليهه، ومن هنا الحديث عن شرب بوله والتبرك بعرقه!) وهو إلى جانب ذلك هو خاتم المرسلين، بمعنى أن الله أرسل لنا الرسالة وقطع على نفسه وعدا بأن يرعانا فهو رحمن رحيم، ولكنه لن يتدخل فى التاريخ الذى أصبح مجال حرية الإنسان، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وبالتالي يصبح التاريخ مجالا للتعارف والتدافع. وكل إنسان قادر على تجاوز السطح المادي انطلاقا إلى قيم إنسانية غير خاضعة لقانون المادة، ولكنه أيضا بوسعه أن يختار أن يذعن لقوانين المادة ويفقد ما يميزه كإنسان. فالإنسان هو الكائن الوحيد القادر على أن يرتفع على ذاته أو يهوى دونها، على عكس الملائكة والحيوانات، فالملائكة لا تملك إلا أن تكون ملائكة والحيوانات هي الأخرى لا تملك إلا أن تكون حيوانات، أما الإنسان فقادر أن يرتفع إلى النجوم أو أن يغوص في الوحل. القرآن هو رسالة مقدسة مدونة في كتاب ليقرأها من يشاء، ويظل التاريخ حيزا مستقلا هو مجال حرية الإنسان يتصارع فيه البشر ويتدافعون.
وقد حلت العقيدة المسيحية مشكلة التواصل بين الخالق والمخلوق بأن جعلت نقطة التقاطع هي شخص المسيح، اللوجوس، ابن الإله، الذي ينزل إلى الأرض ليفدي البشر بدمه وهذا هو التجسد incarnation، مما أدى إلى ظهور إشكالية جوهرية، لأنه حين نزل ابن الإله إلى الأرض وتحول اللاهوت إلى ناسوت، والإلهي إلى إنساني فإنه بذلك دخل في إطار الزمان الدنيوي المادي واقتحم التاريخ الإنساني، فتداخل التاريخ المقدس بالتاريخ الزمني. وقد حاولت الكنيسة الكاثوليكية أن تحل هذه الإشكالية بأن جعلت الحلول يتركز في فرد واحد وليس فى جماعة بشرية هو المسيح، وهو حلول انتهى بالصلب وصعود المسيح وعودته إلى أبيه في السماء. لكن العقيدة المسيحية تستند إلى حادثة الصلب هذه، فجعلت الكنيسة من نفسها جسد المسيح وأصبح البابا هو صاحب العصمة بمعنى أنها أحاطت الحلول (والمقدس) بحواجز حتى لا يتداخل التاريخ المقدس بالتاريخ الزمني، كما أنها قسمت العالم إلى قسمين: قسم ديني يضم رجال الدين من كرادلة ورهبان وراهبات، وقسم علماني (وهذا أول استخدام للكلمة) يضم بقية البشر وبقية مجالات النشاط الإنساني. وهذا يفسر أنه لا يمكن أن يعلن أي شخص قديسا canonization إلا بعد أن تعقد لجنة لدراسة الموضوع، حتى لا يختلط الحابل بالنابل وحتى لا يدعي أحد أنه موضوع الحلول. ولهذا يلاحظ أن الكنيسة الكاثوليكية عارضت عبر تاريخها الحركات الألفية التي تنادي بأن المسيح سيعود مرة أخرى ليحكم العالم لمدة ألف عام يسود فيها العدل والسلام، فهي عقيدة حلولية تنادي بنهاية التاريخ.

ليست هناك تعليقات